الكاتب : د. سمير عميش
التاريخ الاستعماري للدول الغربية بشكل محدد , لم يكن مرحلة عابرة من مراحل التاريخ السياسي الذي ارتبطت مفاهيمه الأساسية بسلطان القوة التي تداولتها دول المنظومة الأوروبية عبر الصراع التاريخي الذي خاضته هذه الدول فيما بينها للسيطرة على مقدرات بقية دول العالم الضعيفة وعلى ثرواتها . واستمرت كل من بريطانيا وفرنسا في سياساتهم الاستعمارية الباشرة حتى ستينيات القرن الماضي .
وقد تميزالساسة البريطانيون بالدهاء السياسي والمداهنة والمراوغة التي عملت على تأجيل لجوء الشعوب المستعمرة (بفتح الراء ) إلى قوة السلاح للخلاص من نيرهم الاستعماري لتطيل أمد أطماعها في خيرات البلاد الأخرى ونهب ثرواتها لتستغلها في رفاه شعبها في الجزر البريطانية على حساب الشعوب المستعمرة بحجة التعمير والتعاون بين شعوب العالم غيرالمتكافئ في قواه العسكرية والاقتصادية .
وكان لوعي الشعوب لما يصيبها من عمليات إفقارممنهجة لاحتياطيات ثرواتها الطبيعية وإهانة كرامة أبنائها المطالبين بالحرية والاستقلال ووقف نهب الثروات وإضعاف كيانات دولهم وإذكاء الفتنة بين مكوناتها الاجتماعية , وإفساد العلاقة الطبيعية بين عناصر تعددية تلك المجتمعات والاستناد إلى سياسة " فرق تسد " الخبيثة الغايات والنتائج التي أبدع الساسة البريطانيون في اللعب بها بمهارة وإتقان المفسدين, كان من نتائج ذلك الوعي الوطني إنهاء صور الاستعمار المباشر بالحرب التحريرية الدامية التي شهدها الاستعمار الفرنسي المشهود له بالقسوة والوحشية في مواجهة طلاب الحرية والتحرير في كل من سوريا والجزائر بلد المليون شهيد , وهروب القوى العسكرية البريطانية أمام تحديات لم تقوعلى مواجهتها بالقوة العسكرية إلا في حالات محددة ( الهروب من الهند على سبيل المثال وكذلك الخروج من مصر ), كما تلقت السياسة الامبريالية الأميركية هزيمة صاعقة في فيتنام .
وعلى الرغم من كل ذلك , فإن السياسات الاستعمارية ظلت ركن زاوية في ظل امتلاك تلك الدول للقوة العسكريةً والاقتصادية والعلمية – التقنية بشكل مباشر ومؤثر. وتبدلت الأساليب الاستعمارية المبنية على الاحتلال المباشر بالقوة العسكرية الطاغية إلى الوسائل الترهيبية والترغيبية ( التهديد بالحصار والمقاطعة والعقوبات على الأشخاص والشركات والمؤسسات ) وإقامة القواعد العسكرية في مناطق نفوذها لإحكام السيطرة على مصادر الثروات الطبيعية ومورادها الأساسية ( النفط , اليورانيوم , الغاز, الحديد , الذهب ... ) أيا ً كان موقعها مع ما يرتبه ذلك من ضرورة السيطرة على المراكزالجيو- سياسية المسخرة لخدمة النهضة والتقدم في تلك الدول على حساب شقاء الدول الضعيفة .
لقد سعى الغرب دوما ًإلى الاهتمام بتجزئة المنطقة العربية لثروتها الحيوية وموقعها الجيوبوليتيكي وتراثها الحضاري العتيد, فكانت إسرائيل قوة عدوانية مباشرة وأداة مجهزة بأسلحة الدمار الشامل, وممولة بالمال والخبرات اليورو- أميركية للحفاظ على السيطرة الغربية على سياسات العديد من دول هذه المنطقة على حساب تقتيل أهلها المستمروتشريدهم المتواصل من أرض فلسطين, والوقوف بوجه الحركات السياسية – الاجتماعية الوطنية الساعية الى التقدم والترقي والاستقلال السياسي والاقتصادي , وإخضاع المنطقة إلى مسببات الأمر الواقع ودواعيه .
أما في هذه الحقبة الزمنية التي شهدت وتشهد حراكا ًموجها ً ضد أنظمة حكم عربية أكل نسيجها الفساد بما كانت تحظى به من دعم وتأييد يورو- أميركي ( مصر وتونس وليبيا) فقد أخذت السياسات الاستعمارية خطة استباقية باتباع منهج الاستحواذ على هذا الحراك وخفض وتيرة صياغات أهدافه التحررية واحتواء القوى المؤثرة على مساره , والتنكر للساسة الذين حظو بدعمها المباشر, بل ذهبت هذه الدول إلى أبعد من ذلك بالمشاركة العسكرية المباشرة في دعمه ورفده بمصادرالقوة السياسية والعسكرية التي تضمن وقوع شخوصه في حضن الذئب المتعطش لنهش الفريسة الدسمة كما هو الحال الليبي ( احتلال العراق له أسباب إضافية أخرى , ولكنه كشف عن نتائج الاستعانة بالأجنبي في " التخلص " من الحكم الفردي هذه النتائج المدمرة للكيان السياسي – الاجتماعي – الاقتصادي للمجتمع والتي تعيد إلى الأذهان إن الاستعمار حركة وإن جوهر هذه الحركة ليس سوى مجموعة عمليات مبرمجة ومخططة للتدميروإعاقة وإفقار وإذلال للكرامة الوطنية للدول المستعمرة ( بفتح الراء ) رافعة راية الحرية والديمقراطية !!! .
وكأن بعض من شخوص الحراك انتقل من الوعي بمرحلة التحرر من الاستعمار وأعوانه التي شهدتها حقبتي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي حيث استعاد الشعب كرامته , إلى التحرر بالاستعمار وأعوانه ؟؟!!! مع ما يترتب على ذلك من ثمن باهظ ً, وخطيئة تاريخية ستظل آثارها السلبية فاعلة فترة طويلة من الزمن , ويتطلب الخلاص منها تضحيات عزيزة وغالية .
والدليل الحالي على سيطرة الأطماع الجشعة على الساسة الإمبرياليين المتجددة والراسخة في ثقافة الاستعمارالسياسية والأخلاقية حي ومباشريؤكده كل من " المحرر" ساركوزي ( كان وزير داخلية فرنسا الذي قمع بالقوة العنصرية تمرد الشباب على سياسات التمييز بين المواطنين ) والمحرر" كاميرون " !!! الذين بادرا بزيارة ليبيا بعد هروب القذافي ليؤكدا استمرارالعمليات العسكرية " لحماية المدنيين " ثلاثة أشهر أخرى !!حيث لم يستح كاميرون من إعلان ذلك وهم يحتفلون بالانتصار !! وبتأييد من ساركوزي بما عرف عنه من رعونة . وهذا في الواقع ليس إلا تهديد ا ًمباشراً ً " لثوار سار – كا " الليبية!! (ساركوزي – كاميرون ) مما حدا بـ " قائد الثورة "!! القاضي عبد الجليل , على الرغم من إن الاحتفال لم يكن مناسبا ً لمثل ما أعلنه في هذا التوقيت المبكر ,إلى إعلان يطمئن السادة بأن العقود الاقتصادية ستمنح بحسب الدورالذي قدمته الدول ( القصف الجوي والصاروخي المدمر للبنى التحتية قتل المدنيين العزل وقوات الاستخبارات والمدربين وقوات لإرشاد والبحث عن الطاغية الهارب .... ) , فهل سيشهد حفل توزيع المغانم التي سيقررها المحتلون بالترهيب مع استمرار التزام حلف الأطلسي في ليبيا الذي لم ينته بعد كما يقول مدبروه ومديروه تدخلا ً من السيد عبد الجليل , أم إنه موافق مسبقا ً.
النهج الاستعماري سيظل السياسة الدائمة لقوى الاستعمار الغربي- الأميركي ما دامت تملك القوة ونواصيها , وما دام الوعي لدى البعض في الدول النامية يمكن تحريفه وإغناءه بالثروة المنهوبة من بلاده , وستظل العبرة التاريخية تؤكد إن قوى الشباب العربي , والخيارات الوطنية والقومية لمكونات الشعب في مختلف أقطاره تقيد جذوة صحوة تاريخ الاستقلال والتحررمن التبعية ومن القوى المأجورة. ويستقر في الوجدان العربي اليقظ إنه : ما زالت حاجة بلادنا العربية إلى عطاءنا أعظم من حاجتنا إلى عطايا بلادنا لنا .